حظر تجول
شهر من أشهر الشتاء في ذلك البلد البارد في جوّه.. الملتهب دومًا في أحداثه.. لم يكد يشهد هذا البلد في أيامه الأخيرة شهرًا من أشهر العام ـ بل قل: يومًا ـ إلا وحدثٌ من الأحداث الساخنة يقع به.. ما بين قتال فتنة أو حادث قتل أو واقعة اغتصاب أو تهجير... أو غير ذلك مما تشيب له رءوس الولدان..
رياح عاتية تدمّر ما تتلقاه بوجهها.. بروق تخطف أبصار الناظرين.. ورعود تصم آذان السامعين.. ماء ثجّاج ينهمر على رءوس القلة الباقية في شارع جنوبي من شوارع المدينة..
بداية باردة ـ بل ساخنة ـ لأول شهر من أشهر الشتاء في هذا البلد.. الشارع متلفّع بسواد ناقع.. كأنما هو امرأة ثكلى فقدت وحيدها في ليلة زفافه.. مصابيحه متكسرة.. لا تدري هل ذلك بفعل الرعد أم بفعل رصاصات طائشة من أحد الغرباء أم شيء آخر!!
لا أحد يسير في الشارع مع كونه شارعًا من شوارع البلدة الرئيسة.. فقد أُعلنت حالة حظر التجول منذ ما يقرب من ساعة ونصف إلى صباح الغد.. قد تكون مغامرة ثمنها الحياة لمن تسوّل له نفسه أن يخرج بعد إعلان حظر التجول..
صوت مؤذن مسجد الأعظمية الكبير يؤذن لصلاة العشاء.. رغم انتهاء المؤذن من الأذان إلا أن المسجد لا يزال فارغًا من المصلين إلا من مؤذن المسجد وإمامه اللذيْن لا أدري كيف وصلا إلى المسجد.. نتيجةٌ طبيعيةٌ لحظر التجول المضروب على المنطقة..
على الجانب الآخر من الشارع.. يظهر بيت متواضع من طابق واحد في أول الشارع.. البيت الوحيد الذي على بابه مصباح كهربائي.. بعدما ضُرب المصباح في الأسبوع الفائت بفعل أحد المارة من ذوي العباءات السوداء صمّم رب البيت على شراء واحد جديد ووضْعِه على باب البيت، رغم أن الأمر يتكرر تقريبًا كل أسبوع أو عشرة أيام..
في وسط هذا الجو الملبّد بما يعكّر صفو أية حياة.. تتوضأ أسرة عراقية تعيش في هذا المنزل بأفرادها الخمسة: الأب والأم والغلام والفتاتين..
- هيا استعدوا لنصلي العشاء في جماعة..
هكذا قال الأب..
بالطبع سيصلّون في البيت.. فالجو بالخارج لا يسمح أبدًا بأن يغامر أحد بحياته ويخرج.. وضعٌ صعبٌ وكريه في الوقت ذاته.. إلا أن الأسرة اعتادت عليه من أيام الحصار.. فهم يعيشون على هذا المنوال منذ أكثر من ستة عشر عامًا..
تسابق الأبناء الثلاثة أيهم يتوضأ أولاً.. غلام وفتاتان في أعمار الزهور.. (عمر) و(فاطمة) و(عائشة).. (عمر) هو أصغرهم.. لم يتعدّ سنُّه عشر سنوات.. لكنه غلام ذكي مرح.. يحب أباه بشكل غريب.. لا يفوت فرصة ليقوم بما تضحك منه الأسرة..
أما الفتاتان فهما توأمتان في الخامسة عشرة من عمريهما.. لا تكاد تفرِّق بين وجهيهما إلا بشق الأنفُس.. جميلتان كما الكائنات النورانية.. تنظر إلى وجهيهما الأبيضين في سواد خماريْهما فترى قمرين مختمرين بليل زاد وجهيهما بياضًا وإشراقًا..
وأما الوالد فهو الحاج (بكر).. شيخ في الخمسين من عمره إلا أنه يتمتع بنشاط وحيوية تشعرك أنه شاب في الثالثة والثلاثين.. تراه وهو يحثّ الأبناء على التسابق لعمل من الأعمال فتظنه في مثل سنهم..
وأما الأم فهي الحكمة والخبرة قد أذيبتا لتُصهَر مادتهما وتشكِّل تلك المرأة العاقلة الحكيمة الرءوم..
دخل عمر الخلاء خِلسةً في خفة ودهاء وأغلق عليه الباب.. الجميع يصرخون:
- اخرج يا عمر.. سيعاقبك أبي..
ولكن انتهى الأمر..
- لا تتعبوا أنفسكم.. مهما طرقتم عليه الباب فلن يفتح لكم.. إنه ابني وأنا أعرفه جيدًا..
قالها الأب وهو يبتسم إلى بناته الصغيرات ابتسامة تأسِر الفؤاد..
خرج عمر بعد عشر دقائق وسط سخط الجميع.. أخذ كل أهل الدار يقذفونه بمناشفهم في مشهد ساخر صاخب وحميمية دافئة..
دخل الجميع للوضوء واحدًا تلو الآخر حتى انتهوا جميعهم.. لبس عمر ووالده جلبابين أبيضين.. ولبست البنتان وأمهن ألبسة الصلاة.. اصطف الجميع في غرفة متواضعة في آخر الشقة.. الوالد وبجانبه عمر.. والفتاتان بجانب والدتهما خلف أبيهما..
- أبي، انتظر لحظة..
صرخ بها عمر قبل أن يدخل والده في الصلاة..
- إلى أين أنت ذاهب؟!
لم يُجِب.. ولم يعطِ فرصة لأبيه كي يكمل سؤاله.. فقد ذهب مسرعًا..علامات التأفف بدأت تظهر على وجه الأب.. عاد عمر وهو يلبس