المتحوّلون
خرج من بيته مسدلاً ستائره المخمليّة.. متوشحًا لباسه الأسود الذي اعتاد ارتداءه.. واضعًا صليبًا كبيرًا من الذهب على صدره.. يصل وزنه إلى نصف كيلوجرام من الذهب الخالص.. يكاد يقع على وجهه من ثقل كمية الذهب على صدره..
كان يسير في الشارع بخطى ثابتة.. يلبس حذاءً أسود اللون.. لا تكاد تميّز شيئًا من البياض في جسده إلا ما كان من غُرة فوق جبهته العريضة..
كان الوقت صباحًا يوم الجمعة.. شمس اليوم مشرقة.. صباح جميل من أيام الشتاء الدافئة.. بعض قطرات من المطر نزلت وكأنها حبيبات ندى غسلت أسفلت الشارع فتركته نظيفًا رطبًا..
الجميع يستعدون لأداء الصلاة.. أما صاحبنا فكان يستعد لشيء آخر أشد وطأة.. يتمتم طوال الطريق بكلمات غير مفهومة إلا من سامعها..
عبْر الشارع.. مجموعة من الشباب يقفون على الناصية يحاولون التحرش بإحدى الفتيات.. انطلق إليهم كالسهم خرج من الرمية.. أمرهم ونهاهم.. وبّخهم على فعلتهم.. ختم كلامـه بقـول الله تـعـالـى: ﮋ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﮊ..
دُهش الشباب من كلامه.. من ترديده للآية وهو على الحال التي يرون منه.. قارنوا لحظة بين كلامه وثيابه.. لم يعيروا الأمر كبير اهتمام.. انطلقوا من طريق.. وانطلق هو من طريق آخر..
انطلق مسرعًا.. لا يريد أن يتأخر عن موعده.. لم يتبقّ سوى نصف ساعة.. سار بخطوات متقاربة ولكنها سريعة.. يكاد تتعثر قدماه من فرط سرعته..
يأتي من بعيد شخص له ملامح مقاربة لملامحه.. يلبس كما يلبس هو.. زيًّا أسود.. صليبًا ذهبيًا على صدره.. اقترب كل منهما من الآخر.. كادا يتجاوران.. رفع صاحبنا يده مسلّمًا من بعيد..
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
هكذا سلَّم..
تعجّب الآخر.. ارتسمت على جبهته ملامح الدهشة والاستغراب.. ليس معتادًا على هكذا تحية.. لم يردّ السلام ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء.. سار عدة أمتار ثم توقف.. أدار وجهه لينظر إلى صاحبنا.. هزّ كتفيه مستغربًا ثم انطلق إلى حاجته..
اقترب صاحبنا من أحد البارات المشهورة في هذه المنطقة ببيع الخمور غالية الثمن.. لمح من بعيد أحد جيرانه وهو خارج من باب البار مترنّحًا أشعث الشعر.. يحمل في يده قنّينة فيها بقية من خمر..
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
هكذا ردّدها في نفسه..
توجّه صوب الجار مسددًا إليه طلقات نارية من لسانه..
- أيها الفاجر الفاسق.. هكذا في النهار ولم يتبق على صلاة الجمعة سوى دقائق معدودات!!
نظر إليه الجار السكران وإلى لباسه ثم نظر إلى زجاجة الخمر.. ابتسم ابتسامة حمقاء وهو يشير إلى رأسه إشارة الجنون..
- ألم تسمع قول الله: ﮋ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﮊ!! اذهب عليك من الله ما تستحق..
قالها بقوة..
زاد انفعال الجار السكران فضرب زجاجة الخمر على الأرض لتنتشر أشلاؤها في أنحاء المكان..
- لعن الله الخمر وبائعها وشاريها وشاربها!!
قالها الجار السكران وهو يجري إلى منزله متخبطًا في المارّة وعواميد الإنارة..
- ما كل هذا الفساد الذي استشرى في المجتمع!! ونتساءل: مِن أين تأتي الأمراض والكوارث والبلايا!! صدق الله إذ يقول: ﮋ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﮊ..
تمتم الرجل بهذه الكلمات وهو مغضب.. تكاد الدَّمعة تسيل من مقلتيْه العسليتين..
على الجانب الآخر من الرصيف سائل.. يلبس لباسًا، الرقع فيه أكثر من قماشه الأصلي.. يُظهر من جسد الرجل أكثر مما يُخفي.. اقترب منه.. أشاح السائل بوجهه عنه.. أخرج من حقيبته جلبابًا في كيسه الذي اشتراه به..
- اغتسِل والبس هذا، لقد اشتريته لنفسي، ولكن أنت أولى، اذهب لصلاة الجمعة وأنت على طهارة لتظفر بأجرها..
فرح السائل.. أخذ يدعو له بصلاح أبنائه.. بأن يرزقه الله رزقًا واسعًا.. بأن يدخله الجنة من أوسع أبوابها.. تلعثم الرجل.. توقفت الكلمات على لسانه.. نظر إلى هيئة صاحبنا.. لم يدرِ ماذا يقول..
- شكرًا.. شكرًا..